الحرب في السودان- قراءة في موازين القوى وآفاق السلام

المؤلف: د. ياسر يوسف إبراهيم10.13.2025
الحرب في السودان- قراءة في موازين القوى وآفاق السلام

لطالما وضعت النظريات العسكرية، سواء أكانت قديمة أم معاصرة، مقاييس راسخة لتقييم مسار الحروب، وتحديد الأطراف الأوفر حظًا في مختلف المراحل وصولًا إلى نقطة النهاية. وعلى الرغم من الصعوبة البالغة في الجزم بنتيجة أي حرب بشكل قاطع، إلا أنّ هنالك جملة من المؤشرات المحيطة بساحة المعركة تساعد في استقراء موازين القوى وتوقّع شروط النصر.

يتطلع الملايين من أبناء الشعب السوداني إلى توقف الاقتتال الدائر بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والذي تفجّر منذ حوالي عام ونصف في العاصمة الخرطوم وامتدّ ليشمل مناطق واسعة من البلاد في دارفور، وولايتي الجزيرة وسنار اللتين تزخران بالخيرات الزراعية.

لكن ما يثير جزع هؤلاء المواطنين هو طول أمد هذا النزاع المسلح وما نتج عنه من مآسٍ إنسانية جمّة. لقد اعتقد الكثيرون في البداية أنها ستكون حربًا خاطفة بين الجيش وفصيل متمرّد عليه، قبل أن تتكشف حقيقة المخطط وحجم الاستهداف الممنهج للوطن والشعب، والذي تجسد في احتلال المنازل، وتدمير أسس الحياة المدنية، وتشريد الملايين من الأبرياء، في تجاهل صارخ لأبسط مبادئ القانون الدولي الإنساني.

تجدر الإشارة إلى أن المادة السابعة من القانون الدولي الإنساني العرفي تنص بوضوح على: "وجوب التمييز الدائم بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية من قبل أطراف النزاع، ويحظر توجيه أي عمل عسكري ضد الأعيان المدنية". كما تؤكد القاعدة 54 على أنه: "يحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين".

ورغم توقيع طرفي النزاع على "إعلان جدة" في مايو/أيار من العام 2023، والذي يشدد بجلاء على ضرورة إخلاء الأعيان المدنية والانسحاب من مساكن المدنيين، إلا أن قوات الدعم السريع، مدعومة من حلفائها المدنيين في "تحالف تقدم"، أصرت على التنصل من تنفيذ بنود ذلك الإعلان.

وفي خضمّ هذا الترقب الحذر من قبل الشعب السوداني لحل يضع حدًا لمعاناتهم ويعيدهم إلى ديارهم وأعمالهم، يبرز تساؤل مُلحّ: ما هي التصورات المتاحة لإنهاء هذه الحرب العبثية؟

إن التجارب المريرة التي مر بها السودان عبر تاريخه الطويل تشير بوضوح إلى أنه مهما طال أمد النزاعات المسلحة ومهما تباعدت مواقف الأطراف المتنازعة، فإن الحل التفاوضي يبقى في نهاية المطاف هو السبيل الأمثل لوضع اللمسات الأخيرة لإنهاء الحرب وإسكات صوت البنادق. ولكن، وبالنظر إلى الواقع الميداني المتمثل في الاستقطاب العسكري والسياسي الحاد، والتدخلات الإقليمية والدولية غير المجدية، وتمدد قوات الدعم السريع في ولايات جديدة، فإنه من غير المرجح أن تظهر أي مبادرة قادرة على تقريب وجهات النظر، إلا إذا شعر أحد الطرفين بأن التطورات الميدانية لن تخدم أهدافه السياسية على المدى البعيد.

معايير صن تزو

في ظل قناعة راسخة لدى كل طرف بقدرته على حسم المعركة لصالحه، نحاول هنا تطبيق نظرية الفيلسوف والقائد العسكري الصيني الشهير "صن تزو"، صاحب الكتاب الذائع الصيت "فن الحرب" الذي ألفه قبل أكثر من ألفي عام ليصبح منذ ذلك الحين مرجعًا أساسيًا في مجال الحروب وفنون القتال.

وضع صن تزو سبعة معايير أساسية لتقييم أي حرب والتنبؤ بنتائجها المحتملة:

  1. أيّ من قادة الطرفين يتحلى بقدر أكبر من التمسك بقواعد السلوك الأخلاقي (أي الانسجام والتوافق بين الحاكم والمحكومين)؟
  2. أيّ من قادة الطرفين يتمتع بقدرات أعلى على القيادة والتدبير؟
  3. لمن تميل الظروف المناخية والجغرافية (عناصر السماء والأرض)؟
  4. أيّ من الطرفين يلتزم بالنظام والانضباط التزامًا كاملًا؟
  5. أيّ من الجيشين هو الأقوى من حيث الروح المعنوية والقدرات البدنية والتجهيزات العسكرية؟
  6. أيّ من الجيشين يمتلك ضباطًا أكثر تدريبًا واستعدادًا؟
  7. أيّ من الجيشين يحرص على تطبيق مبدأ الثواب والعقاب بشكل عادل؟

ويؤكد صن تزو أنه "من خلال تحليل نتائج هذه الأسئلة السبعة، يمكنني أن أحدد بدقة الطرف الذي سيحقق النصر والطرف الذي سيتجرع مرارة الهزيمة". واستنادًا إلى هذه الأسئلة، سنحاول هنا الوقوف على حسابات الطرفين وتقييم مواقفهما على أرض الواقع.

موقف الجيش السوداني

يتمتع الجيش السوداني بشرعية أخلاقية وسياسية راسخة في هذا الصراع، فهو يمثل صوت الضمير الوطني والركيزة الأساسية للحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها، كما يمثل الحكومة الوطنية المعترف بها دوليًا والتي تحظى بدعم غالبية الشعب السوداني. علاوة على ذلك، يمتلك الجيش خبرة طويلة في إدارة المعارك وإجادة كبيرة في اتباع التكتيكات التي تهدف إلى إلحاق الإرهاق بالعدو واستنزاف قدراته القتالية.

وعلى الرغم من أن النظريات العسكرية الحديثة غالبًا ما تعطي الأفضلية في حروب المدن للجيوش غير النظامية، إلا أن الجيش السوداني تمكن من استيعاب الصدمة الأولى وتطوير تكتيكات واقعية للتعامل مع الاندفاع القوي لقوات الدعم السريع التي كانت مدفوعة بأعدادها الهائلة في الأشهر الأولى من الحرب. وقد تجلى ذلك بوضوح في التكتيكات المتبعة للحفاظ على المواقع العسكرية الحيوية واستدراج العدو نحو ما يمكن تسميته "بمعارك الأسوار" التي دارت رحاها حول القيادة العامة للجيش ومبنى المدرعات، حيث استطاع الجيش صد مئات الهجمات المتتالية وإلحاق خسائر فادحة بالمهاجمين في الأرواح والمعدات.

ويتضح أن الجيش قد تبنى إستراتيجية الجنرال الروماني فابيوس ماكسيموس (إستراتيجية فابيان) التي تقوم على تجنب الدخول في معارك ضارية أو اشتباكات مباشرة مع الصفوف الأمامية لجيش العدو، أو حتى الانجرار إلى حرب فاصلة، والتركيز بدلًا من ذلك على استنزاف العدو ومراوغته لأطول فترة ممكنة بهدف إضعافه وتقويض قدراته القتالية.

ومن خلال متابعة سير المعارك والأسلحة المستخدمة فيها، يتبين أن الجيش قد تمكن خلال المرحلة السابقة، وبجهود استثنائية، من إعادة بناء منظومة التسليح لديه بصورة فعالة على المستويين الداخلي والخارجي، وهو الأمر الذي أكده مساعد قائد الجيش الفريق ياسر العطا، بعد أن تعرضت هذه المنظومة لهزة عنيفة في المرحلة الأولى من الحرب.

كما أن الجيش يقاتل وهو يتمتع بدعم شعبي واسع النطاق، وهو ما يسميه الفيلسوف الصيني "الانسجام بين الحاكم والمحكومين"، ما يمنحه قوة معنوية ونفسية هائلة. واستثمارًا لهذا التعاطف الشعبي المتزايد، أطلق الجيش حملة المقاومة الشعبية، التي انخرط فيها عشرات الآلاف من الشباب السوداني القادر على حمل السلاح، مما مكنه من موازنة التفوق البشري الذي تتمتع به قوات الدعم السريع.

ولا شك أن انضمام القوات المشتركة للحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا إلى القتال في صفوف الجيش يمثل دفعة قوية وهامة، حيث ساهمت هذه القوات بشكل كبير في إعاقة تقدم قوات الدعم السريع في دارفور وعاصمتها الفاشر على وجه الخصوص، وفي إفشال أي خطط لدى قيادة الدعم السريع لاحتلال الفاشر وإعلان حكومة موازية من هناك.

نقاط ضعف الجيش

على الرغم من المؤشرات الإيجابية المذكورة، هناك بعض النقاط الهامة التي تستدعي التوقف عندها:

  • أولًا، عنصر الوقت. يؤكد صن تزو على أنه "لا توجد أي تجربة تاريخية تشير إلى أن بلدًا ما قد استفاد من خوض حروب طويلة الأمد"، فكلما طال أمد الحرب، ازدادت معاناة المواطنين الذين يعلقون آمالًا كبيرة على الجيش في حسم المعركة بسرعة، كما أن ذلك سيمكن قوات الدعم السريع وداعميها من إيجاد طرق بديلة للحصول على التسليح والدعم العسكري والسياسي.
  • ثانيًا، على الرغم من التنوع النسبي للحاضنة السياسية التي تدعم الجيش، فإنه لا يمكن الجزم بوجود كيان سياسي متماسك يشارك فعليًا في التخطيط وإدارة المعركة سياسيًا. إن عدم تشكيل حكومة تحظى بدعم حاضنة سياسية قوية منذ قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2022 قد أثر سلبًا على طبيعة العلاقة بين الجيش والقوى السياسية الداعمة له، والتي كانت تطمح في الحصول على فرص أكبر للمشاركة في صنع القرار السياسي.
  • ثالثًا، تأثرت العلاقات الخارجية للحكومة السودانية بالموقف الأمريكي المتردد تجاه الجيش بعد قرارات أكتوبر/تشرين الأول. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تعتبر تلك القرارات انقلابًا عسكريًا، إلا أنها اتخذت مواقف معادية للجيش، مما أثر تبعًا لذلك على علاقات الحكومة السودانية مع الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وعدد من الدول العربية.

حسابات قوات الدعم السريع

  • أولًا، تمكنت هذه القوات من السيطرة على أجزاء واسعة من الأراضي السودانية، حيث تنتشر في أربع ولايات من أصل خمس في دارفور، وتحتل ولاية الجزيرة ذات الموقع الإستراتيجي الحيوي في قلب السودان، بالإضافة إلى ولاية سنار. ورغم أن بعض الخبراء العسكريين يرون أن هذا الانتشار الواسع غير مجدٍ ومرهق عسكريًا، إلا أن قيادة الدعم السريع تعتبره ورقة ضغط مهمة في أي مفاوضات قادمة، أو حتى في تشكيل حكومة موازية في المناطق التي تسيطر عليها.
  • ثانيًا، تحظى قوات الدعم السريع بحاضنة قبلية قوية في أكثر من دولة أفريقية، حيث يوجد أفراد لديهم استعداد فطري للقتال بشراسة في صفوفها، مما يمكنها من تعويض الخسائر البشرية مهما بلغت.
  • ثالثًا، إن اصطفاف تحالف "تقدم" المدعوم غربيًا مع قوات الدعم السريع يضعها في موقع الطرف الذي يسعى إلى تحسين علاقاته مع الدول الغربية، التي لا تزال تنظر إليها بعين الريبة وتعتبرها قوة سيئة السمعة تحمل أوزارًا تاريخية ثقيلة بسبب الجرائم التي ارتكبت في إقليم دارفور.
  • رابعًا، استمرار تدفق الدعم العسكري اللامحدود إليها، وفقًا لما وثقته تقارير الأمم المتحدة والحكومة السودانية على السواء.

نقاط ضعف قوات الدعم السريع

هناك قضية جوهرية تؤثر بشكل كبير على صورة قوات الدعم السريع، وهي حجم الجرائم المروعة التي ارتكبت بحق المدنيين السودانيين منذ اندلاع الحرب. فقد تجاوزت جرائم القتل والاغتصاب والسلب والنهب والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة كل الحدود والأوصاف. ففي كل منطقة سيطرت عليها، قامت بتهجير السكان ونهب ممتلكاتهم، مما أدى إلى تزايد السخط الشعبي تجاهها.

بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب هدف واضح للحرب يمثل عامل إدانة أخلاقية لهذه القوات التي تفتقر إلى الانضباط العسكري والقيادة الرشيدة. فالخسائر البشرية الفادحة التي تكبدتها قد أثرت بشكل مباشر على كم ونوعية المقاتلين في صفوفها، فضلًا عن تفكك المنظومة القبلية التي تتكون منها هذه القوات. هذه الخلافات القبلية المتزايدة، وخاصة بعد فقدان قادة تاريخيين بارزين مثل علي يعقوب الذي لقي مصرعه في محيط الفاشر، قد تؤدي إلى تقليل فعالية الهجمات العسكرية التي تشنها القوات.

ورغم هذه التحديات الجسام، قد تتمكن قوات الدعم السريع من الحفاظ على الوضع الأمني المتدهور على ما هو عليه الآن، لكنها ستواجه صعوبات جمة في تحقيق أي تقدم حاسم على الأرض، أو الحفاظ على السيطرة على المناطق التي احتلتها.

أخيرًا، على الرغم من الحسابات العسكرية والسياسية المعقدة، فإن استمرار الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يبدو مدفوعًا بقناعة راسخة لدى كل طرف بقدرته على تحقيق النصر النهائي. ومع ذلك، فإن استمرار هذا الصراع الدموي لن يؤدي إلا إلى مضاعفة معاناة المدنيين الأبرياء وتدمير البنية التحتية للبلاد.

لقد أثبت التاريخ بما لا يدع مجالًا للشك أن الحلول التفاوضية هي الأكثر فعالية في إنهاء الحروب، وأن وقف الصراع يبدأ بإرادة وطنية حقيقية، وليس بانتظار حلول جاهزة تفرضها الوساطات الخارجية.

إن نقطة البداية الحقيقية لإنهاء هذه الحرب المدمرة تكمن في استعادة القرار الوطني إلى الداخل، وإعادة الاعتبار للجيش الوطني الموحد باعتباره رمزًا للسيادة الوطنية، والسعي الجاد نحو حلول تفاوضية عادلة تضع حدًا لمعاناة المدنيين وتُسكت صوت البنادق إلى الأبد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة